الأربعاء، 17 ديسمبر 2014

أبو بكر الأمريكي والشيخ مالك السنوسي

 هذه القصة وقعت قبل 2 سنتين..
صورة من تصويري للشيخ مالك قبل وفاته بشهر ونصف

في الذكرى الأولى* لوفاة سيدي الشيخ الشريف مالك بن العربي السنوسي المدني تذكرت أن أروي جانباً من آخر أيامه رحمه الله مع قصة شخص اسمه "أبو بكر الأمريكي" من أصلٍ زنجي رحمهما الله، وتبدأ القصة قبل وفاة الشيخ مالك بأقل من شهر واحد، حيث وصلني اتصالاً من صديقٍ لي طلب مني أن أكون مترجماً له باللغة الإنجليزية لشخص مريض زار المدينة مع أهله فاتصل به أحد أصدقاءه من الدمام يطلب منه زيارته كونه وحيد ولا يعرف العربية.
فاتفقنا على موعد وذهبنا للعنوان وهو (أي صديقي) لا يعرفه أيضاً ولم يره من قبل، كان العنوان في إحدى الشقق المفروشة فصعدنا وفتح الباب لنا طفل صغير لا يتحدث العربية فطلبنا منه زيارة أبيه فأشار لنا بالدخول ووجدنا صالة المعيشة خالية ثم أشار لنا بالدخول إلى غرفة النوم الرئيسية، دخلنا فإذا برجل مغمى عليه يتنفس بصعوبة وبساعده إبرة المحلول (المغذي) ومسجل القرآن الكريم يشتغل بالتلاوة ولا يوجد معه أحد، تفاجأنا بالموقف وكنا نتوقع غاية الأمر أن الرجل مريض بوعكة صحية خفيفة. تركنا الطفل لوحدنا وخرج مسرعاً وأصبحنا مرتبكين لا نعرف كيف نتصرف وحاولنا أن ننادي على شخص كبير بالأسرة لكننا لم نلق جواباً، فقررنا الجلوس وقراءة بعض الآيات القرآنية والدعاء له بالشفاء حتى دخلت علينا زوجته الأمريكية الأصل وكانت متنقّبة فسألتنا عمن نكون؟ فأجبناها، ثم أخبرتنا أن زوجها مريض بالسرطان (عافانا الله وإياكم) منذ سنتين وهو الآن في مراحله النهائية وحسب تقارير الأطباء بقي له بعض الأيام لحياته، وقد طلب منها أن تأخذه للمدينة المنورة ليقضي باقي أيامه هناك ويدفن بالبقيع الشريف بجوار الحبيب عليه أفضل الصلاة والسلام، حيث أنه مقيم بمدينة الدمام وكان يعمل هناك.
أصبحنا في موقف لا نحسد عليه من المفاجأة فطلبت منها أن تقوم بنقله إلى المستشفى بدلاً من وجوده بين أولاده بهذه الوضعية لكنها رفضت وأجابت أنها تعبت منذ سنتين من المستشفيات وتفضل خدمته بنفسها مع أولادها. حاولت إقناعها عدة مرات وأن المسألة مهمة حتى من الناحية الإجرائية والنظامية لكنها فضلت ذلك. المهم أننا انصرفنا من عندها ونحن مذهولين من الحالة وصديقي لا يكف عن البكاء.
ثم أصبحنا نزوره ترددياً وبعد حوالي أسبوعين توفي رحمه الله فأخذت أوراقه الرسمية وبدأت بالإبلاغ عن وفاته وكانت مهمة صعبة جداً بين أقسام الشرطة والهلال الأحمر والمستشفى والمشرحة والقنصلية وانتهيت من جميع الاجراءات في يومين بعد الحصول على جميع الوثائق اللازمة لدفنه ووصل في تلك الأثناء بعض أصدقاءه الأمريكيين والبريطانيين المسلمين من الرياض والدمام ثم استطعت إخراج جثمانه من الثلاجة وغسله وتكفينه وصلينا عليه بالمسجد النبوي الشريف وقمت بدفنه بالبقيع الشريف حسب وصيته رحمه الله.
في هذه الأثناء كنت قد غبت عن سيدي الشيخ الشريف مالك السنوسي حوالي ثلاثة أيام وكانت من عادتي زيارته كل يوم تقريباً لقراءة صحيح البخاري أو الموطأ عليه، فاستغرب غيابي وسألني عن سببه فقصصت عليه حكاية "أبو بكر الأمريكي" فلم يتمالك نفسه من البكاء وأخذ يتذكر هجرته من ليبيا إلى المدينة منذ حوالي ثلاثين عاماً وأنه ما هاجر إلا للجوار والوفاة بها والدفن بالبقيع الشريف وأوصاني بأن أقوم بنفس الإجراءات له حين وفاته، فأردت أن أخفف عليه وأهون عليه الأمر وأمازحه بأنه ما زال شاباً وأن العمر طويل أمامه لكنه ظل في حالة الحزن هذه عدة أيام وكان يسألني كل يوم عن عائلة أبي بكر وما مصيرها.
وبعد حوالي عشرة أيام وصلت كالمعتاد لمكتبي بالصباح الباكر فوصلتني رسالة بوفاة الشيخ مالك السنوسي رحمه الله، فأسرعت إلى بيته غير مصدق ووجدت الكثير من القوم وابنه محمد حفظه الله ومعه صدفة أحد الموظفين بالقنصلية الليبية كان في زيارة للمدينة المنورة في هذه الأثناء، وكان رحمه الله قد أحس بوجع في صدره بمنتصف الليل وتم نقله للمستشفى وقضى هناك قبيل صلاة الفجر. المهم أنني طلبت من ابنه أوراقه الرسمية وطلبت من الموظف بالقنصلية أن يقوم بالاتصال بزملائه وارسال الموافقة على دفنه قبل أن أنتهي من الإجراءات الأخرى ووعدته أن أسلمه جميع الأوراق بعد انتهاءها على أن تسرع القنصلية بإرسال الموافقة بالفاكس، وذهبت لإكمال اجراءات أقسام الشرطة والمستشفى وسهل الله لي الأمور وكأن تلك الإجراءات التي قمت بها لأبي بكر الأمريكي عبارة عن "بروفة" لإجراءات سيدي مالك رحمه الله، حضرت صلاة الظهر وأنا منتهٍ بفضل الله من جميع الإجراءات النظامية، فاستلمنا جثمانه من المستشفى وغسلناه بإدارة شئون الموتى وكان قد حضر بعض طلبته المخلصين من مكة المكرمة وجدة والرياض فكفناه وصلينا عليه العصر بالمسجد النبوي واتجهنا إلى البقيع الشريف وبخاطري أمل ضعيف في أن أتشرف بدفنه لكني كنت أعرف أن هذا الشرف أحق به ابنه من صلبه محمد حفظه الله، وعندما وصلنا لقبره المفتوح وصل ابنه محمد وكان في حالة حزن شديدة فألهمني الله أن أسأله بأن ينزل هو لكنه تردّد فاستأذنت منه سريعاً وقفزت مباشرة إلى لحده وباشرت دفنه رحمه الله وتشرفت بأن أوسّده على يمينه وأكشف وجهه وأقرأ عليه بعض الآيات الشريفة وألقنه الشهادتين، ثم قمت برص "بلوكات اللَّبِن" على لحده رحمه الله فأهلنا عليه التراب ودعونا له وانصرفنا.
أبو بكر الأمريكي الذي لم يراني يقظة ولم أتحدث معه مطلقاً في حياته كان لي كالأخ الذي لم تلده أمي رحمه الله، وسيدي الشيخ مالك السنوسي كان كالأب لنا، لم نسمع منه يوماً أي كلمة مسيئة وكان يعاملنا بكل احترام ورحمة ويتجاوز عن زلاتنا أمامه بقلبه الكبير وصبره الطويل.
 * كنت قد كتبت هذه المقالة قبل عام في الذكرى الأولى لوفاته وكان قد توفي الشيخ مالك السنوسي رحمه الله في 26 صفر 1434هـ، ومما استجد في القصة أنني التقيت بالابن الأكبر لأبي بكر الأمريكي قبل عدة أشهر بالمدينة المنورة وهو لم يكن موجوداً معه أثناء وفاته لأنه من زوجة سابقة غير مسلمة، وهو مسلم والحمد لله في العشرينات من عمره وذو خلق ومؤدب ويعيش مع أمه منذ طلاقهما وكان على اتصال دائم مع والده أيام حياته.
رحم الله أبا بكر الأمريكي وسيدي الشيخ مالك السنوسي وأسكنهما فسيح جناته وجمعنا معهما وبقية مشايخنا وآبائنا وأولادنا وأهلنا وأحبابنا مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى. ورزقنا شهادة في المدينة ودفناً بالبقيع.

الخميس، 4 ديسمبر 2014

سؤال فقهي عن حكم عقد النكاح بدون وليّ

من أكثر الأسئلة التي يسألني الناس عنها في المجالس كوني أحد طلبة المذهب الحنفي، هو:
هل يجيز الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه الزواج (عقد النكاح) بغير وليّ للمرأة (العروس)؟؟
فمما وصلني من أحد الإخوة الأفاضل يسأل قبل أيام نفس السؤال تقريباً فقررت أن أتوسع في الردّ عليه.
السؤال:
أنا في أندونيسيا ووجدت كثير من الشباب يتزوجون من غير وليّ، بحجّة أنه معتمد مذهب الإمام أبي حنيفة..
هل هذا فعلاً معتمد المذهب أو هو قول عندهم؟
وما الشروط المترتبة على ذلك؟
وهل البكر والثيب سواء؟ وهل لها أن تزوج نفسها أو توكل أي شخص لتزويجها؟
وهل يلزم من الشهود الإسلام وظاهر الصلاح فقط؟
وما الشروط للانتقال من مذهب إلى مذهب آخر في هذه المسألة؟
انتهى السؤال...

ثم سألته: هل الزواج في صيغة مؤقتة أم شرعية دائمة؟ وما الداعي لتوجه هذه الفئة من الشباب إلى الزواج بغير وليّ بالرغم من أن العرف السائد عندهم هو الزواج بوليّ؟
فأفادني السائل:
بأنه قد يكون الاتفاق لمدة مؤقتة بينهما قبل العقد وليس في العقد، ليوم أو شهر أو غيره..
ومن الأسباب التي دعت الشباب لعدم وجود وليّ: إما السفر أو الموت أو عدم الرضى..
****************
الجواب:
   المذهب الحنفي انتشر منذ القرن الثاني الهجري في مناطق شاسعة كخراسان وبلاد الأفغان ووسط آسيا (تركستان) ثم سيبيريا والقارة الهندية وغيرها من البلاد، وكل هذه الشعوب والقبائل والمجتمعات استمرت إلى اليوم على أعرافها وعاداتها في مراسيم الأعراس بحضور ورضا وليّ الزوجة سواء ثيباً أو بكراً.
  
   ومقاصد النكاح في الإسلام كما تعلمون هي إقامة علاقة قربى وزيادة النسل وتكوين حياة أسرية فطرية بين أفرادها، وليس لإخماد الغريزة والشهوة فقط.
  
   والشرع كرّم المرأة وأعطاها حرّية الاختيار في شريك حياتها بضوابط تحفظ لها كرامتها وعزتها بطريقة حضارية راقية، فإن هي أساءت لنفسها الاختيار وضيعت حقوقها الشرعية والشخصية، تدخّل الوليّ ليرفع الضرر عنه وعنها وطلب فسخ عقدها ليرجع الأمور لميزان المصالح المشتركة بما حفظه الشرع له ولها من حقوق.
  
   فالعلاقة بين الوليّ والمرأة متداخلة ويغلب عليها طابع الثقة وتقديم المصلحة لحصول مقاصد النكاح التي ذكرناها أعلاه، فأي الجانبين فرّط في حقه الخاص أو تعدّى على حقوق الطرف الآخر استطاع الثاني أن يعيد التوازن في العلاقة، فإذا ما اعتدى الوليّ على المرأة بتزويجها أو إجبارها على رجل هرِم طاعن في السن تبغضه أو تنفر منه فلن تجبر عليه لأنها ذات استقلالية في اختيارها وذات أهلية في شخصيتها. وإن هي تعدّت على وليّها بعدم اختيار الكفء لها فجلبت لعصبتها الانتقاص في القدر والمكانة تدخل الوليّ وفسخ العقد للضرر الواقع عليها وعليه.

ومما يفتى به عندنا في المذهب عدم صحة عقد النكاح إذا لم يرضَ الوليّ بغير الكفء، ولا يفيد الرضا بعد العقد، وإن وطئها الرجل فهو حرام.

   وشعب أندونيسيا المسلم لم يُعرف عندهم انتشار المذهب الحنفي بقدر الشافعي وقليلاً من المالكي، واتجاه بعض فئات الشباب لتقليد حكم الحنفية في عدم شرط حضور الوليّ في إقامة صيغة أنكحة مشبوهة وغير شرعية (مؤقتة) هي من باب اتباع الهوى والالتفاف على مقاصد النكاح الشرعي الفطري وأخشى أن يكون لتحليل ما حرمه الله.
   "عدم شرط الوليّ في عقد النكاح" نافع جداً في المجتمعات غير المسلمة وخاصة للفتاة التي تدخل الإسلام لأبوين غير مسلمين فلا وليّ لها ولا قاضٍ شرعي يعقد لها، وتكون في حاجة ماسّة لإقامة أسرة محصنة مع زوج مسلم فتضطر لعقد الزواج المدني، ففي هذه الصورة تكون الفتوى لها قيمتها وتظهر سماحتها وتحقق مقصد ((أهلية المرأة الرشيدة على نفسها)) الذي رآه الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه.
  
   يتعيّن علينا أن نجبُن قليلاً عن تمرير حكم (جواز زواج المرأة بدون وليّ) للعوام ( لفساد الزمان ) وخاصة بين المجتمعات المسلمة التي لها أعراف وعادات. أو أن نوضح العلاقة المتكاملة في الحقوق بين الوليّ والمرأة من جميع جوانبها دون أن نجتزئ الحكم من صورته الكلية؛ حتى نفوّت الفرصة لمن يريد الخروج على روح قانون الأحكام الشرعية في المجتمعات المحافظة.

والأعذار ليست دائماً مسوغاً للتقليد

   فالوليّ (المسافر) يرجع ولو تأخر ويجوز للوليّ الأبعد التزويج بغيبة الأقرب، و(الميت) له بديل وارث من العصبة، و(عدم رضى الوليّ) لا يبرر إقصاءه لأن قوته تظهر بعد العقد في فسخه لعدم الكفاءة.

بعض أحكام عقد النكاح

   لا يشترط الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه الوليّ في عقد نكاح المرأة الرشيدة (الحرة البالغة العاقلة) بكراً أو ثيباً، وقالا الصاحبان (أبو يوسف ومحمد بن الحسن رحمهما الله): لا ينعقد إلا بوليّ. ويروى أنهما رجعا لقول الإمام. وجدير بالذكر هنا أن أدلة الإمام قطعية وقوية في الباب.
   وجه الجواز: أنها تصرفت في خاص حقها وهي من أهله؛ لكونها عاقلة مميزة، ولهذا كان لها التصرف في المال ولها اختيار الأزواج، وإنما يطالب الوليّ بالتزويج كي لا تنسب المرأة إلى الوقاحة.
  
   الولاية تندب على البالغة ولو بكراً، وولاية الإجبار تكون على الصغيرة ولو ثيباً. فلا تجبر البالغة العاقلة البكر على النكاح لانقطاع الولاية بالبلوغ. والسنّة أن يستأمر الوليّ البكر قبل النكاح ويذكر لها الزوج ولا يجبرها وينتظر ردّها.
   الوليّ هو العصبة على ترتيبهم في الإرث والحجب ثم مولى العتاقة. ولا ولاية لعبد ولا صغير ولا مجنون ولا كافر على مسلمة.
   ويشترط بحضور شاهدين حرّين مسلمين بالغين عاقلين ولو فاسقين، رجلين أو رجل وامرأتين. ويجوز للبالغة التوكيل في العقد.
   والفتوى على عدم صحة عقد النكاح لعدم رضى الوليّ لغير الكفء، ولا يفيد الرضا بعده، وإن وطئها فهو حرام، وهي رواية للحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه.
   والكفاءة تكون في: النسب والدِّين والحرية والمال والصنعة.
   وزواج المتعة باطل، والزواج المؤقت باطل سواء اتفقا على المدة قبل العقد أو أثناءه.
   وفي متن الدر المختار: بعاقد رشيد وشهود عدول ا.هـ.
   وفي حاشية ابن عابدين: ولا ينبغي أن يعقد مع المرأة بلا أحد من عصبتها، ولا مع عصبةٍ فاسق ا.هـ.

خاتمة
   حصول المقاصد الشرعية للنكاح في الإسلام يكون بحصول المصالح الشخصية للمرأة والاعتبارية لوليّها، وعدم اشتراط الوليّ في عقد النكاح (من الناحية الفقهية) لا يعني عدم أهميته أو إقصاءه من القضية.
   فالتداخل في المصالح قائم بينهما بشكل وثيق وميزان الأحكام الشرعية هو الضابط للحقوق الإنسانية والاجتماعية للطرفين.

والله أعلم وأحكم،،،،