سؤال:
ما حكم تقبيل الرجل زوجته أو أخته أو ابنته الكبيرة عند
اللقاء في اﻷماكن العامة، أو عند العودة من السفر في المطارات ومحطات القطارات ونحوها؟
الجواب:
أولاً: أدلة جواز التقبيل عند القدوم من السفر
على وجه "المحبة والشوق والسرور"
1. ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:
أنه قبّل بين عيني جعفر واعتنقه حين قدم من الحبشة.
2. وما روي عنه صلى الله عليه وسلم: انه
لما قدم زيد بن حارثة المدينة وقرع الباب قام إليه يجرّ ثوبه فاعتنقه وقبله.
3. وما أخرجه ابن سعد: أن النبي صلى الله
عليه وسلم قبل نعيم بن عبدالله النحام واعتنقه لما قدم المدينة مهاجراً.
4. وما روي عنه: أن فاطمة رضي الله عنها
كانت إذا دخلت عليه قام إليها قبلها وأجلسها في مجلسه. وكان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها.
5. وما روي عن أسيد بن حضير: أنه اعتنق
النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يقبل كشحه.
6. وما روي عن أم الدرداء رضي الله عنها
قالت: قدم علينا سلمان فقال: أين أخي؟ قلت: في المسجد، فأتاه فلما رآه اعتنقه.
7. وما أخرجه الطحاوي عن الشعبي: أن أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا التقوا تصافحوا وإذا قدموا من سفر تعانقوا.
ثانياً: مبحث في مسألة تقبيل المحارم عند
فقهاء أهل السنة والجماعة من أصحاب المذاهب الأربعة:
عبارة الحنفية:
1. ذكر الكاساني رحمه الله في بدائع
الصنائع: (وَلِهَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِيمَا بين الناس بِتَقْبِيلِ
أُمَّهَاتِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان إذَا قَدِمَ
من الْغَزْوِ قَبَّلَ رَأْسَ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنها).
2. وذكر ابن مازة البخاري في المحيط
البرهاني: (وروى ابن رستم عن محمّد رحمهما الله: إذ قال: يقبّل المظاهر امرأته
بغير شهوة إذا قدم من السفر كما يقبّل أمّه).
3. وفي الدر المختار: (كما يُكْرَهُ
تَقْبِيلُ الْمَرْأَةِ فَمَ أُخْرَى أو خَدَّهَا عِنْدَ اللِّقَاءِ أو الْوَدَاعِ
كما في الْقُنْيَةِ مقدماً للقيل). وقال ابن عابدين في شرحه: وهذا لو عن شهوة.
4. وفي الفتاوى الهندية: (وَلَوْ قَدِمَ
شَيْخٌ من السَّفَرِ فَأَرَادَ أَنْ يُقَبِّلَ أُخْتَهُ وَهِيَ شَيْخَةٌ قال إنْ
كان يَخَافُ على نَفْسِهِ لم يَجُزْ وَإِلَّا يَجُوزُ كَذَا رَوَى خَلَفٌ عن أبي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى).
عبارة الشافعية:
1. ذكر النووي رحمه الله في المنهاج في
كتاب الشهادة ومما يخل بالمروءة: (وَقُبْلَةُ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ بِحَضْرَةِ
النَّاسِ).
وشرحها ابن حجر في التحفة بأن المقصود "قبلة في
الفم" فقال:
(وقبلة زوجة أو أمة) في نحو فمها لا رأسها أو وضع
يده على نحو صدرها ( بحضرة الناس) أو أجنبي يسقطها بخلافه بحضرة جواريه أو زوجاته
وتوقف البلقيني في تقبيلها بحضرة الناس أو الأجنبيات ليلة جلائها ولا وجه في
التوقف في ذلك؛ لأنه لا يفعله إلا من لا خلاق له كما في قوله.
وكذلك شرحها الرملي في النهاية بأن المقصود منها "قبلة
في الفم".
وشرحها الخطيب في مغني المحتاج بقوله:
(وقبلة زوجة وأمة) له (بحضرة الناس) أو وضع يده على
موضع الاستمتاع منها من صدر ونحوه، والمراد جنسهم ولو واحداً فلو عبر بحضرة أجنبي
كان أولى. قال البلقيني: والمراد بالناس الذين يستحيي منهم في ذلك، والتقبيل الذي
يستحيا من إظهاره، فلو قبل زوجته بحضرة جواريه، أو بحضرة زوجات له غيرها، فإن ذلك
لا يعد من ترك المروءة. وأما تقبيل الرأس ونحوه فلا يخل بالمروءة. وأما تقبيل ابن
عمر رضي الله عنهما أَمَته التي وقعت في سهمه بحضرة الناس فقال الزركشي كأنه تقبيل
استحسان لا تمتع، أو فعله بيانا للجواز، أو ظن أنه ليس ثم من ينظره، أو على أن
المرة الواحدة لا تضر على ما اقتضاه نص الشافعي.
2. وفي التحفة لابن حجر: ويسن تقبيل قادم
من سفر ومعانقته للاتباع الصحيح في جعفر رضي الله عنه، لما قدم من الحبشة.
3. وفي نهاية المحتاج للرملي: ويندب تقبيل قادم من سفر ومعانقته.
عبارة الحنابلة:
ذكر المرداوي في الإنصاف في كتاب النكاح ووجوب المهر
بالخلوة فقال: (حتى تَقْبِيلَهَا بِحَضْرَةِ الناس). وذكر أيضاً: وَقَالَهُ
الْقَاضِي: في الخلوة إنْ كان ذلك عَادَتُهُ تَقَرَّرَ وَإِلَّا فَلَا، وقال ابن
عَقِيلٍ في التَّذْكِرَةِ: إنْ كان مِمَّنْ يُقَبِّلُ أو يُعَانِقُ بِحَضْرَةِ
الناس عَادَةً كانت خَلْوَةً منه وَإِلَّا فَلَا ا.هـ.
ثالثاً: تعريف المروءة
أذكر هنا تعريف الشافعية للمروءة لأنهم ذكروا مسألة
التقبيل "بحضرة الناس" في فصل خوارم المروءة علماً بأن الشراح حصروها في
"التقبيل في الفم" كما تقدم:
قال الخطيب: أحسن ما قيل في تفسيرها أنها تخلق للمرء
بخلق أمثاله من أبناء عصره ممن يراعي مناهج الشرع وآدابه في زمانه ومكانه؛ لأن
الأمور العرفية قلما تنضبط، بل تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والبلدان، وهذا
بخلاف العدالة، فإنها لا تختلف باختلاف الأشخاص، فإن الفسق يستوي فيه الشريف
والوضيع، بخلاف المروءة فإنها تختلف، وقيل: المروءة التحرز عما يسخر منه ويضحك به،
وقيل: هي أن يصون نفسه عن الأدناس، ولا يشينها عند الناس وقيل: غير ذلك.
وقال الإمام الماوردي في أدب الدنيا والدين بقوله:
فالمروءة مراعاة الأحوال التي تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد٬ ولا يتوجه
إليها ذم باستحقاق.اهـ
وحكى البيهقي في المعرفة عن ابن سريج: أن العدل من
لا يكون تاركا للمروءة في غالب العادة وهو يقتضي اعتبار الإكثار في الجميع.اهـ
أي في جميع خوارم المروءة التي ذكروها في الباب.
رابعاً: حديث: "من كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم"
1. ذكره الملّا علي القاري في المرقاة نقلا
عن الطيبي بدون تخريج في معرض شرحه لحديث: "إذا أحدث أحدكم في صلاته، فليأخذ
بأنفه، ثم لينصرف".
2. كما ذكره الزمخشري في الكشاف عند تفسير
آية الأحزاب "إن الله وملائكته يصلون على النبي"، وقال: أما إذا أفرد
غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو، فمكروه، لأن ذلك صار شعاراً لذكر رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه يؤدي إلى الاتهام بالرفض ا.هـ ولم يخرجه.
3. وذكره الإمام مالك في رسالته لهارون
الرشيد بلفظ: (مَنْ كان يُؤْمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فلا يَقِفْ مواقفَ
التُّهَمِ).
4. وجاء في المقاصد الحسنة للسخاوي 1133: "مَنْ
سَلَكَ مَسَالِكَ التُّهَمِ اتُّهِمَ"، رواه الخرائطي في المكارم، من حديث
عمر من قوله لكن بلفظ: من أقام نفسه مقام التهمة فلا يلومن من أساء الظن به، وقال:
وقد ذكرت آثاراً من المعنى في تصنيفي في الظن.اهـ
والحديث ذكره العديد من العلماء وواضح أنه صحيح
المعنى وله شواهد من عدة طرق.
خامساً: القاعدة الأصولية: (لا حجة مع
الاحتمال الناشئ عن دليل) .
التوضيح:
كل حجة عارضها احتمال مستند إلى دليل يجعلها غير
معتبرة، ولكن الاحتمال غير المستند إلى دليل فهو بمنزلة العدم. إذ لا عبرة بالاحتمال إذا
لم يكن ناشئاً عن دليل، لأنه توهم، ولا عبرة
بالتوهم. وهذا عند أبي حنيفة دون صاحبيه ودون الشافعي.
مثال ذلك:
لو أقر أحد لأحد ورثته بدين، فإن كان في مرض موته لا
يصح ما لم يصدقه باقي الورثة، وذلك لأن احتمال كون المريض قصد بهذا الإقرار حرمان
سائر الورثة مستندا إلى دليل كونه في المرض، وأما إذا كان الإقرار في حال الصحة
جاز، واحتمال إرادة حرمان سائر الورثة حينئذ من حيث إنه احتمال مجرد ونوع من
التوهم لا يمنع حجة الإقرار .
تطبيق القاعدة على مسألة بحثنا بالعودة للحديث
المتقدم والاستدلال به:
"لا عبرة باحتمال وقوع "التهمة" لمن
يقبّل محارمه في المطارات ومحطات القطار لأنها ليست مواطن تهمة "شهوة"،
بل مواطن استقبال ووداع. فلا حجة لمن يستدل به هنا".
وقد تكون لهم حجة لمن يقبل في الأماكن العامة الأخرى
كالشوارع والحدائق والأسواق استدلالاً بالحديث المتقدم وحديث: "إنها
صفية".
سادساً: الخلاصة
1. لا بأس بتقبيل الأم والأخت والمحارم
والزوجة (من غير الفم) عند القدوم من السفر أو الوداع في المطارات ومحطات القطار
في الأماكن التي تغلب عليها مظنة الاستقبال والوداع دون الشوارع والحدائق والأسواق
(المولات).
2. لا حجة لمن يستدل بحديث "لا يقفن مواقف
التهم"، خاصة في المطارات ومحطات القطار.
3. وقد يكون من الجفاء أن يستقبل الولد أمه
في صالات المطار أو يودعها دون أن يقبلها؛ خشية التهمة!
4. الشوارع والحدائق والأسواق ليست مظنة
للاستقبال أو الوداع، لذا يلزم تجنب التقبيل "في الخد" للمحارم.
5. تجنب تقبيل الزوجة "في الفم" مطلقاً
في الأماكن العامة، لأنها ليست من الآداب والسلوكيات والأعراف العامة.
والله أعلم،،
""سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك
أنت العليم الحكيم""
كتبه الفقير إلى عفو ربه: منصور بخاري
المدينة المنورة
ربيع الثاني 1437هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق